فصل: فصل: من طلب منه حق فامتنع من دفعه حتى يشهد القابض على نفسه بالقبض

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب الوكالة

وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها‏}‏ فجوز العمل عليها‏,‏ وذلك بحكم النيابة عن المستحقين وأيضا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه‏}‏ وهذه وكالة وأما السنة فروى أبو داود‏,‏ والأثرم وابن ماجه عن الزبير بن الخريت‏,‏ عن أبي لبيد لمازة بن زبار عن عروة بن الجعد قال‏:‏ عرض للنبي -صلى الله عليه وسلم- جلب فأعطاني دينارا‏,‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة‏)‏ قال‏:‏ فأتيت الجلب‏,‏ فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار فجئت أسوقهما‏,‏ أو أقودهما فلقينى رجل بالطريق فساومني‏,‏ فبعت منه شاة بدينار فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدينار وبالشاة فقلت‏:‏ يا رسول الله هذا ديناركم‏,‏ وهذه شاتكم قال‏:‏ ‏(‏وصنعت كيف‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ فحدثته الحديث قال‏:‏ ‏(‏اللهم بارك له في صفقة يمينه‏)‏ هذا لفظ رواية الأثرم وروى أبو داود بإسناده عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ أردت الخروج إلى خيبر‏,‏ فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت له‏:‏ إني أردت الخروج إلى خيبر فقال‏:‏ ‏(‏ائت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته‏)‏ وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه وكل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة وأبا رافع في قبول نكاح ميمونة‏.‏

وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة ولأن الحاجة داعية إلى ذلك فإنه لا يمكن كل واحد فعل ما يحتاج إليه‏,‏ فدعت الحاجة إليها‏.‏

فصل

وكل من صح تصرفه في شيء بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح أن يوكل فيه رجلا كان أو امرأة‏,‏ حرا أو عبدا مسلما كان أو كافرا وأما من يتصرف بالإذن كالعبد المأذون له‏,‏ والوكيل والمضارب فلا يدخلون في هذا لكن يصح من العبد التوكيل فيما يملكه دون سيده‏,‏ كالطلاق والخلع وكذلك الحكم في المحجور عليه لسفه لا يوكل إلا فيما له فعله من الطلاق والخلع‏,‏ وطلب القصاص ونحوه وكل ما يصح أن يستوفيه بنفسه وتدخله النيابة‏,‏ صح أن يتوكل لغيره فيه إلا الفاسق فإنه يصح أن يقبل النكاح لنفسه وذكر القاضي أنه لا يصح أن يقبله لغيره وكلام أبي الخطاب يقتضي جواز ذلك وهو القياس ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان‏,‏ كهذين فأما توكيله في الإيجاب فلا يجوز إلا على الرواية التي تثبت الولاية له وذكر أصحاب الشافعي في ذلك وجهين أحدهما‏:‏ يجوز توكيله لأنه ليس بولي ووجه الوجه الآخر أنه موجب للنكاح‏,‏ أشبه الولي ولأنه لا يجوز أن يتولى ذلك بنفسه فلم يجز أن يتوكل فيه كالمرأة ويصح توكيل المرأة في طلاق نفسها‏,‏ وطلاق غيرها ويصح توكيل العبد في قبول النكاح لأنه ممن يجوز أن يقبله لنفسه وإنما يقف ذلك على إذن سيده ليرضى بتعلق الحقوق به ومن لا يملك التصرف في شيء لنفسه لا يصح أن يتوكل فيه‏,‏ كالمرأة في عقد النكاح وقبوله والكافر في تزويج مسلمة والطفل والمجنون في الحقوق كلها‏.‏

فصل

وللمكاتب أن يوكل فيما يتصرف فيه بنفسه وله أن يتوكل بجعل‏,‏ لأنه من اكتساب المال ولا يمنع المكاتب من الاكتساب وليس له أن يتوكل لغيره بغير جعل إلا بإذن سيده لأن منافعه كأعيان ماله‏,‏ وليس له بذل عين ماله بغير عوض وللعبد أن يتوكل بإذن سيده وليس له التوكيل بغير إذن سيده وإن كان مأذونا له في التجارة لأن الإذن في التجارة لا يتناول التوكيل وتصح وكالة الصبي المراهق‏,‏ إذا أذن له الولي لأنه ممن يصح تصرفه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ويجوز التوكيل في الشراء والبيع ومطالبة الحقوق والعتق والطلاق‏,‏ حاضرا كان الموكل أو غائبا‏]‏

لا نعلم خلافا في جواز التوكيل في البيع والشراء وقد ذكرنا الدليل عليه من الآية والخبر ولأن الحاجة داعية إلى التوكيل فيه لأنه قد يكون ممن لا يحسن البيع والشراء أو لا يمكنه الخروج إلى السوق وقد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه‏,‏ وقد يحسن ولا يتفرغ وقد لا تليق به التجارة لكونه امرأة أو ممن يتعير بها‏,‏ ويحط ذلك من منزلته فأباحها الشرع دفعا للحاجة وتحصيلا لمصلحة الآدمي المخلوق لعبادة الله سبحانه ويجوز التوكيل في الحوالة‏,‏ والرهن والضمان والكفالة‏,‏ والشركة الوديعة والمضاربة‏,‏ والجعالة والمساقاة والإجارة‏,‏ والقرض والصلح والوصية‏,‏ والهبة والوقف والصدقة‏,‏ والفسخ والإبراء لأنها في معنى البيع في الحاجة إلى التوكيل فيها فيثبت فيها حكمه ولا نعلم في شيء من ذلك اختلافا ويجوز التوكيل في عقد النكاح في الإيجاب والقبول لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل عمرو بن أمية‏,‏ وأبا رافع في قبول النكاح له‏.‏

ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه ربما احتاج إلى التزوج من مكان بعيد‏,‏ لا يمكنه السفر إليه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج أم حبيبة وهي يومئذ بأرض الحبشة ويجوز التوكيل في الطلاق‏,‏ والخلع والرجعة والعتاق لأن الحاجة تدعو إليه‏,‏ كدعائها إلى التوكيل في البيع والنكاح ويجوز التوكيل في تحصيل المباحات كإحياء الموات وإسقاء الماء‏,‏ والاصطياد والاحتشاش لأنها تملك مال بسبب لا يتعين عليه فجاز التوكيل فيه‏,‏ كالابتياع والاتهاب ويجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف واستيفائهما‏,‏ في حضرة الموكل وغيبته لأنهما من حقوق الآدميين وتدعو الحاجة إلى التوكيل فيهما لأن من له حق قد لا يحسن الاستيفاء‏,‏ أو لا يحب أن يتولاه بنفسه‏.‏

فصل

ويجوز التوكيل في مطالبة الحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها‏,‏ حاضرا كان الموكل أو غائبا صحيحا أو مريضا وبه قال مالك وابن أبى ليلى‏,‏ وأبو يوسف ومحمد والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ للخصم أن يمنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا لأن حضوره مجلس الحكم‏,‏ ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضاء خصمه كالدين عليه ولنا‏,‏ أنه حق تجوز النيابة فيه فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضاء خصمه كحال غيبته ومرضه‏,‏ وكدفع المال الذي عليه ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم‏,‏ فإن عليا رضي الله عنه وكل عقيلا عند أبى بكر رضي الله عنه وقال‏:‏ ما قضي له فلي وما قضي عليه فعلي ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان وقال‏:‏ إن للخصومة قحما‏,‏ وإن الشيطان ليحضرها وإني لأكره أن أحضرها قال أبو زياد‏:‏ القحم المهالك وهذه قصص انتشرت لأنها في مظنة الشهرة‏,‏ فلم ينقل إنكارها ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإنه قد يكون له حق‏,‏ أو يدعى عليه ولا يحسن الخصومة أو لا يحب أن يتولاها بنفسه ويجوز التوكيل في الإقرار ولأصحاب الشافعي وجهان أحدهما‏,‏ لا يجوز التوكيل فيه لأنه إخبار بحق فلم يجز التوكيل فيه كالشهادة ولنا‏,‏ أنه إثبات حق في الذمة بالقول فجاز التوكيل فيه كالبيع‏,‏ وفارق الشهادة فإنها لا تثبت الحق وإنما هو إخبار بثبوته على غيره‏.‏

فصل

ولا يصح التوكيل في الشهادة لأنها تتعلق بعين الشاهد لكونها خبرا عما رآه أو سمعه‏,‏ ولا يتحقق هذا المعنى في نائبه فإن استناب فيها كان النائب شاهدا على شهادته لكونه يؤدي ما سمعه من شاهد الأصل‏,‏ وليس بوكيل ولا يصح في الأيمان والنذور لأنها تتعلق بعين الحالف والناذر فأشبهت العبادات البدنية والحدود ولا يصح في الإيلاء والقسامة واللعان لأنها أيمان ولا في القسم بين الزوجات لأنه يتعلق ببدن الزوج لأمر لا يوجد من غيره ولا في الرضاع لأنه يختص بالمرضعة والمرتضع لأمر يختص بإثبات لحم المرتضع‏,‏ وإنشاز عظمه بلبن المرضعة ولا في الظهار لأنه قول منكر وزور فلا يجوز فعله ولا الاستنابة فيه ولا يصح في الغصب لأنه محرم ولا في الجنايات لذلك ولا في كل محرم لأنه لا يجوز له فعله‏,‏ فلم يجز لنائبه‏.‏

فصل

فأما حقوق الله تعالى فما كان منها حدا كحد الزنى والسرقة، جاز التوكيل في استيفائه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأمر بها فرجمت). متفق عليه. (وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم ماعز فرجموه). ووكل عثمان عليا في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة. ووكل علي الحسن في ذلك، فأبى الحسن، فوكل عبد الله بن جعفر، فأقامه، وعلي يعد. رواه مسلم. ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن الإمام لا يمكنه تولي ذلك بنفسه. ويجوز التوكيل في إثباتها. وقال أبو الخطاب: لا يجوز في إثباتها. وهو قول الشافعي؛ لأنها تسقط بالشبهات، وقد أمرنا بدرئها بها، والتوكيل يوصل إلى الإيجاب. ولنا، حديث أنيس؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في إثباته واستيفائه جميعا، فإنه قال: (فإن اعترفت فارجمها). وهذا يدل على أنه لم يكن ثبت، وقد وكله في إثباته واستيفائه جميعا. ولأن الحاكم إذا استناب، دخل في ذلك الحدود، فإذا دخلت في التوكيل بطريق العموم، وجب أن تدخل بالتخصيص بها أولى، والوكيل يقوم مقام الموكل في درئها بالشبهات. وأما العبادات، فما كان منها له تعلق بالمال، كالزكاة والصدقات والمنذورات والكفارات، جاز التوكيل في قبضها وتفريقها، ويجوز للمخرج التوكيل في إخراجها ودفعها إلى مستحقها. ويجوز أن يقول لغيره: أخرج زكاة مالي من مالك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها، وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: (أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). متفق عليه. ويجوز التوكيل في الحج إذا أيس المحجوج عنه من الحج بنفسه، وكذلك العمرة. ويجوز أن يستناب من يحج عنه بعد الموت. وأما العبادات البدنية المحضة، كالصلاة والصيام والطهارة من الحدث، فلا يجوز التوكيل فيها؛ لأنها تتعلق ببدن من هي عليه، فلا يقوم غيره مقامه فيها، إلا أن الصيام المنذور يفعل عن الميت، وليس ذلك بتوكيل؛ لأنه لم يوكل في ذلك، ولا وكل فيه غيره. ولا يجوز في الصلاة إلا في ركعتي الطواف تبعا للحج. وفي فعل الصلاة المنذورة، وفي الاعتكاف المنذور عن الميت روايتان. ولا تجوز الاستنابة في الطهارة، إلا في صب الماء، وإيصال الماء للأعضاء، وفي تطهير النجاسة عن البدن والثوب وغيرهما .

فصل

وكل ما جاز التوكيل فيه جاز استيفاؤه في حضرة الموكل وغيبته ونص عليه أحمد وهذا مذهب مالك وقال بعض أصحابنا‏:‏ لا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف في غيبة الموكل أومأ إليه أحمد وهو قول أبى حنيفة وبعض الشافعية لأنه يحتمل أن يعفو الموكل في حالة غيبته فيسقط وهذا الاحتمال شبهة تمنع الاستيفاء ولأن العفو مندوب إليه‏,‏ فإذا حضر احتمل أن يرحمه فيعفو والأول ظاهر المذهب لأن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكل جاز في غيبته‏,‏ كالحدود وسائر الحقوق واحتمال العفو بعيد والظاهر أنه لو عفا لبعث وأعلم وكيله بعفوه والأصل عدمه‏,‏ فلا يؤثر ألا ترى أن قضاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يحكمون في البلاد ويقيمون الحدود التي تدرأ بالشبهات‏,‏ مع احتمال النسخ‏؟‏ وكذلك لا يحتاط في استيفاء الحدود بإحضار الشهود مع احتمال رجوعهم عن الشهادة أو تغير اجتهاد الحاكم‏.‏

فصل

ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول لأنه عقد تعلق به حق كل واحد منهما‏,‏ فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع ويجوز الإيجاب بكل لفظ دل على الإذن نحو أن يأمره بفعل شيء‏,‏ أو يقول‏:‏ أذنت لك في فعله فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل عروة بن الجعد في شراء شاة بلفظ الشراء وقال الله تعالى مخبرا عن أهل الكهف أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه‏}‏ ولأنه لفظ دال على الإذن‏,‏ فجرى مجرى قوله‏:‏ وكلتك ويجوز القبول بقوله‏:‏ قبلت وكل لفظ دل عليه ويجوز بكل فعل دل على القبول نحو أن يفعل ما أمره بفعله لأن الذين وكلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينقل عنهم سوى امتثال أمره ولأنه إذن في التصرف فجاز القبول فيه بالفعل‏,‏ كأكل الطعام ويجوز القبول على الفور والتراخى نحو أن يبلغه أن رجلا وكله في بيع شيء منذ سنة فيبيعه أو يقول‏:‏ قبلت أو يأمره بفعل شيء‏,‏ فيفعله بعد مدة طويلة لأن قبول وكلاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لوكالته كان بفعلهم وكان متراخيا عن توكيله إياهم ولأنه إذن في التصرف والإذن قائم‏,‏ ما لم يرجع عنه فأشبه الإباحة وهذا كله مذهب الشافعي‏.‏

فصل

ويجوز تعليقها على شرط نحو قوله‏:‏ إذا قدم الحاج فبع هذا الطعام وإذا جاء الشتاء فاشتر لنا فحما وإذا جاء الأضحى فاشتر لنا أضحية وإذا طلب منك أهلى شيئا فادفعه إليهم وإذا دخل رمضان فقد وكلتك في هذا‏,‏ أو فأنت وكيلى وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي‏:‏ لا يصح لكن إن تصرف صح تصرفه لوجود الإذن وإن كان وكيلا بجعل فسد المسمى‏,‏ وله أجر المثل لأنه عقد يملك به التصرف في الحياة فأشبه البيع ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله بن رواحة‏)‏ وهذا في معناه ولأنه عقد اعتبر في حق الوكيل حكمه وهو إباحة التصرف وصحته‏,‏ فكان صحيحا كما لو قال‏:‏ أنت وكيلى في بيع عبدى إذا قدم الحاج ولأنه لو قال‏:‏ وكلتك في شراء كذا في وقت كذا صح بلا خلاف‏,‏ ومحل النزاع في معناه ولأنه إذن في التصرف أشبه الوصية والتأمير ولأنه عقد يصح بغير جعل ولا يختص فاعله بكونه من أهل القربة‏,‏ فصح بالجعل كالتوكيل الناجز‏.‏

فصل

ويجوز التوكيل بجعل وغير جعل فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل أنيسا في إقامة الحد وعروة في شراء شاة‏,‏ وعمرا وأبا رافع في قبول النكاح بغير جعل وكان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم عمالة ولهذا قال له ابنا عمه‏:‏ لو بعثتنا على هذه الصدقات فنؤدى إليك ما يؤدى الناس‏,‏ ونصيب ما يصيبه الناس يعنيان العمالة فإن كانت بجعل استحق الوكيل الجعل بتسليم ما وكل فيه إلى الموكل إن كان مما يمكن تسليمه‏,‏ كثوب ينسجه أو يقصره أو يخيطه فمتى سلمه إلى الموكل معمولا فله الأجر وإن كان الخياط في دار الموكل فكلما عمل شيئا وقع مقبوضا‏,‏ فيستحق الوكيل الجعل إذا فرغ الخياط من الخياطة وإن وكل في بيع أو شراء أو حج استحق الأجر إذا عمله وإن لم يقبض الثمن في البيع وإن قال‏:‏ إذا بعت الثوب وقبضت ثمنه‏,‏ وسلمته إلى فلك الأجر لم يستحق منها شيئا حتى يسلمه إليه فإن فاته التسليم لم يستحق شيئا لفوات الشرط‏.‏

فصل

ولا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم فإن قال: وكلتك في كل شيء. أو في كل قليل وكثير. أو في كل تصرف يجوز لي. أو في كل مالي التصرف فيه. لم يصح. وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي. وقال ابن أبي ليلى: يصح، ويملك به كل ما تناوله لفظه؛ لأنه لفظ عام، فصح فيما يتناوله، كما لو قال: بع مالي كله. ولنا، أن في هذا غررا عظيما، وخطرا كبيرا؛ لأنه تدخل فيه هبة ماله، وطلاق نسائه، وإعتاق رقيقه، وتزوج نساء كثيرة. ويلزمه المهور الكثيرة، والأثمان العظيمة، فيعظم الضرر. وإن قال: اشتر لي ما شئت. لم يصح؛ لأنه قد يشتري ما لا يقدر على ثمنه. وقد روي عن أحمد، ما يدل على صحته؛ لقوله في رجلين، قال كل واحد منهما لصاحبه: ما اشتريت من شيء فهو بيننا: إنه جائز. وأعجبه. ولأن الشريك والمضارب وكيلان في شراء ما شاء. فعلى هذا ليس له أن يشتري إلا بثمن المثل فما دون، ولا يشتري ما لا يقدر الموكل على ثمنه، ولا ما لا يرى المصلحة له في شرائه. وإن قال: بع مالي كله، واقبض ديوني كلها. صح؛ لأنه قد يعرف ماله وديونه. وإن قال: بع ما شئت من مالي، واقبض ما شئت من ديوني. جاز؛ لأنه إذا جاز التوكيل في الجميع، ففي بعضه أولى. وإن قال: اقبض ديني كله، وما يتجدد في المستقبل. صح. وقال أصحاب الشافعي: إذا قال: بع ما شئت من مالي. لم يجز. وإن قال: من عبيدي. جاز؛ لأنه محصور بالجنس. ولنا، أن ما جاز التوكيل في جميعه، جاز في بعضه، كعبده. وإن قال: اشتر لي عبدا، تركيا، أو ثوبا هرويا. صح. وإن قال: اشتر لي عبدا، أو قال ثوبا ولم يذكر جنسه، صح أيضا. وقال أبو الخطاب: لا يصح. وهو مذهب الشافعي، لأنه مجهول. ولنا، أنه توكيل في شراء عبده، فلم يشترط ذكر نوعه، كالقراض. ولا يشترط ذكر قدر الثمن. ذكره القاضي. وقال أبو الخطاب: لا يصح حتى يذكر قدر الثمن. وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي؛ لأن العبيد تتفاوت من الجنس الواحد، وإنما تتميز بالثمن. ولنا، أنه إذا ذكر نوعا، فقد أذن في أغلاه ثمنا، فيقل الغرر، ولأن تقدير الثمن يضر، فإنه قد لا يجد بقدر الثمن. ومن اعتبر ذكر الثمن، جوز أن يذكر له أكثر الثمن وأقله .

فصل

وإذا وكل وكيلين في تصرف‏,‏ وجعل لكل واحد الانفراد بالتصرف فله ذلك لأنه مأذون له فيه فإن لم يجعل له ذلك فليس لأحدهما الانفراد به لأنه لم يأذن له في ذلك‏,‏ وإنما يجوز له ما أذن فيه موكله وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه معا في حرز لهما لأن قوله‏:‏ افعلا كذا يقتضي اجتماعهما على فعله وهو مما يمكن‏,‏ فتعلق بهما وفارق هذا قوله‏:‏ بعتكما حيث كان منقسما بينهما لأنه لا يمكن كون الملك لهما على الاجتماع فانقسم بينهما فإن غاب أحد الوكيلين لم يكن للآخر أن يتصرف‏,‏ ولا للحاكم ضم أمين إليه ليتصرفا لأن الموكل رشيد جائز التصرف لا ولاية للحاكم عليه فلا يضم الحاكم وكيلا له بغير أمره وفارق ما لو مات أحد الوصيين‏,‏ حيث يضيف الحاكم إلى الوصى أمينا ليتصرف لكون الحاكم له النظر في حق الميت واليتيم ولهذا لو لم يوص إلى أحد أقام الحاكم أمينا في النظر لليتيم وإن حضر الحاكم أحد الوكيلين‏,‏ والآخر غائب وادعى الوكالة لهما وأقام بينة سمعها الحاكم‏,‏ وحكم بثبوت الوكالة لهما ولم يملك الحاضر التصرف وحده فإذا حضر الآخر تصرفا معا‏,‏ ولا يحتاج إلى إعادة البينة لأن الحاكم سمعها لهما مرة فإن قيل‏:‏ هذا حكم للغائب قلنا‏:‏ يجوز تبعا لحق الحاضر كما يجوز أن يحكم بالوقف الذي يثبت لمن لم يخلق لأجل من يستحقه في الحال كذا ها هنا وإن جحد الغائب الوكالة‏,‏ أو عزل نفسه لم يكن للآخر أن يتصرف وبما ذكرناه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا وجميع التصرفات في هذا سواء وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا وكلهما في خصومة‏,‏ فلكل واحد منهما الانفراد بها ولنا أنه لم يرض بتصرف أحدهما أشبه البيع والشراء‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه‏,‏ إلا أن يجعل ذلك إليه‏]‏

لا يخلو التوكيل من ثلاثة أحوال‏:‏ أحدها أن ينهى الموكل وكيله عن التوكيل فلا يجوز له ذلك بغير خلاف‏,‏ لأن ما نهاه عنه غير داخل في إذنه فلم يجز كما لو لم يوكله الثاني أذن له في التوكيل‏,‏ فيجوز له ذلك لأنه عقد أذن له فيه فكان له فعله كالتصرف المأذون فيه ولا نعلم في هذين خلافا وإن قال له‏:‏ وكلتك فاصنع ما شئت فله أن يوكل وقال أصحاب الشافعي‏:‏ ليس له التوكيل في أحد الوجهين لأن التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه بنفسه‏,‏ وقوله‏:‏ اصنع ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه ولنا أن لفظه عام فيما شاء فيدخل في عمومه التوكيل الثالث‏,‏ أطلق الوكالة فلا يخلو من أقسام ثلاثة أحدها أن يكون العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله‏,‏ كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس المرتفعين عن فعلها في العادة أو يعجز عن عمله لكونه لا يحسنه أو غير ذلك‏,‏ فإنه يجوز له التوكيل فيه لأنه إذا كان مما لا يعمله الوكيل عادة انصرف الإذن إلى ما جرت به العادة من الاستنابة فيه القسم الثاني أن يكون مما يعمله بنفسه‏,‏ إلا أنه يعجز عن عمله كله لكثرته وانتشاره فيجوز له التوكيل في عمله أيضا لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فجاز التوكيل في فعل جميعه‏,‏ كما لو أذن في التوكيل بلفظه وقال القاضي‏:‏ عندي أنه إنما له التوكيل فيما زاد على ما يتمكن من عمله بنفسه لأن التوكيل إنما جاز للحاجة فاختص ما دعت إليه الحاجة بخلاف وجود إذنه فإنه مطلق ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين القسم الثالث‏:‏ ما عدا هذين القسمين‏,‏ وهو ما يمكنه عمله بنفسه ولا يترفع عنه فهل يجوز له التوكيل فيه‏؟‏ على روايتين إحداهما‏,‏ لا يجوز نقلها ابن منصور وهو مذهب أبى حنيفة وأبى يوسف والشافعي لأنه لم يأذن له في التوكيل‏,‏ ولا تضمنه إذنه فلم يجز كما لو نهاه‏,‏ ولأنه استئمان فيما يمكنه النهوض فيه فلم يكن له أن يوليه لمن لم يأمنه عليه كالوديعة والأخرى‏,‏ يجوز نقلها حنبل وبه قال ابن أبى ليلى إذا مرض أو غاب لأن الوكيل له أن يتصرف بنفسه فملكه نيابة كالمالك والأول أولى ولا يشبه الوكيل المالك فإن المالك يتصرف بنفسه في ملكه كيف شاء‏,‏ بخلاف الوكيل‏.‏

فصل

وكل وكيل جاز له التوكيل فليس له أن يوكل إلا أمينا لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين فيقيد جواز التوكيل بما فيه الحظ والنظر‏,‏ كما أن الإذن في البيع يتقيد بالبيع بثمن المثل إلا أن يعين له الموكل من يوكله فيجوز توكيله‏,‏ وإن لم يكن أمينا لأنه قطع نظره بتعيينه وإن وكل أمينا وصار خائنا فعليه عزله لأن تركه يتصرف مع الخيانة تضييع وتفريط‏,‏ والوكالة تقتضى استئمان أمين وهذا ليس بأمين فوجب عزله‏.‏

فصل

والحكم في الوصى يوكل فيما أوصى به إليه‏,‏ وفي الحاكم يولى القضاء في ناحية يستنيب غيره حكم الوكيل فيما ذكرنا من التفصيل إلا أن المنصوص عن أحمد‏,‏ في رواية مهنا جواز ذلك وهو قول الشافعي في الوصى لأن الوصى يتصرف بولاية بدليل أنه يتصرف فيما لم ينص له على التصرف فيه‏,‏ والوكيل لا يتصرف إلا فيما نص له عليه والجمع بينهما أولى لأنه متصرف في مال غيره بالإذن فأشبه الوكيل وإنما يتصرف فيما اقتضته الوصية‏,‏ كالوكيل إنما يتصرف فيما اقتضته الوكالة‏.‏

فصل

فأما الولي في النكاح فله التوكيل في تزويج موليته بغير إذنها أبا كان أو غيره وقال القاضي في من ولايته غير ولاية الإجبار‏:‏ هو كالوكيل‏,‏ يخرج على الروايتين المنصوص عليهما في الوكيل ولأصحاب الشافعي فيه وجهان أحدهما لا يملك التوكيل إلا بإذنها لأنه لا يملك التزويج إلا بإذنها أشبه الوكيل‏,‏ ولنا أن ولايته من غير جهتها فلم يعتبر إذنها في توكيله فيها‏,‏ كالأب بخلاف الوكيل ولأنه متصرف بحكم الولاية الشرعية‏,‏ أشبه الحاكم ولأن الحاكم يملك تفويض عقود الأنكحة إلى غيره بغير إذن النساء فكذلك الولي وما ذكروه يبطل بالحاكم والذي يعتبر إذنها فيه هو غير ما يوكل فيه‏,‏ بدليل أن الوكيل لا يستغنى عن إذنها له في التزويج أيضا فهو كالموكل في ذلك‏.‏

فصل

إذا أذن الموكل في التوكيل فوكل‏,‏ كان الوكيل الثاني وكيلا للموكل لأنه لا ينعزل بموت الوكيل الأول ولا عزله‏,‏ ولا يملك الأول عزل الثاني لأنه ليس بوكيله وإن أذن له أن يوكل لنفسه جاز وكان وكيلا للموكل ينعزل بموته وعزله إياه‏,‏ وإن مات الموكل أو عزل الأول انعزلا جميعا لأنهما فرعان له‏,‏ لكن أحدهما فرع للآخر فذهب حكمهما بذهاب أصلهما وإن وكل من غير أن يؤذن له في التوكيل نطقا بل وجد عرفا‏,‏ أو على الرواية التي أجزنا له التوكيل من غير إذن فالثانى وكيل الوكيل الأول حكمه حكم ما لو أذن له أن يوكل لنفسه‏.‏

فصل

إذا وكل رجلا في الخصومة‏,‏ لم يقبل إقراره على موكله بقبض الحق ولا غيره وبه قال مالك والشافعي وابن أبى ليلى وقال أبو حنيفة ومحمد‏:‏ يقبل إقراره في مجلس الحكم‏,‏ فيما عدا الحدود والقصاص وقال أبو يوسف‏:‏ يقبل إقراره في مجلس الحكم وغيره لأن الإقرار أحد جوابى الدعوى فصح من الوكيل كالإنكار ولنا‏,‏ أن الإقرار معنى يقطع الخصومة وينافيها فلا يملكه الوكيل فيها كالإبراء وفارق الإنكار فإنه لا يقطع الخصومة‏,‏ ويملكه في الحدود والقصاص وفي غير مجلس الحاكم ولأن الوكيل لا يملك الإنكار على وجه يمنع الموكل من الإقرار فلو ملك الإقرار‏,‏ لامتنع على الموكل الإنكار فافترقا ولا يملك المصالحة عن الحق‏,‏ ولا الإبراء منه بغير خلاف نعلمه لأن الإذن في الخصومة لا يقتضي شيئا من ذلك وإن أذن له في تثبيت حق لم يملك قبضه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يملك قبضه لأن المقصود من التثبيت قبضه وتحصيله ولنا‏,‏ أن القبض لا يتناوله الإذن نطقا ولا عرفا إذ ليس كل من يرضاه لتثبيت الحق يرضاه لقبضه وإن وكله في قبض حق فجحد من عليه الحق‏,‏ كان وكيلا في تثبيته عليه في أحد الوجهين وبه قال أبو حنيفة والآخر‏:‏ ليس له ذلك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنهما معنيان مختلفان‏,‏ فالوكيل في أحدهما لا يكون وكيلا في الآخر كما لا يكون وكيلا في القبض بالتوكيل في الخصومة ووجه الأول أنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالتثبيت فكان إذنا فيه عرفا‏,‏ ولأن القبض لا يتم إلا به فملكه كما لو وكل في شراء شيء ملك وزن ثمنه‏,‏ أو في بيع شيء ملك تسليمه ويحتمل أنه إن كان الموكل عالما بجحد من عليه الحق أو مطله كان توكيلا في تثبيته والخصومة فيه لعلمه بوقوف القبض عليه وإن لم يعلم ذلك‏,‏ لم يكن توكيلا فيه لعدم علمه بتوقف القبض عليه ولا فرق بين كون الحق عينا أو دينا وقال بعض أصحاب أبى حنيفة‏:‏ إن وكله في قبض عين لم يملك تثبيتها لأنه وكيل في نقلها أشبه الوكيل في نقل الزوجة ولنا أنه وكيل في قبض حق‏,‏ فأشبه الوكيل في قبض الدين وما ذكروه يبطل بالتوكيل في قبض الدين فإنه وكيل في قبضه ونقله إليه‏.‏

فصل

وإن وكله في بيع شيء ملك تسليمه لأن إطلاق التوكيل في البيع يقتضي التسليم لكونه من تمامه‏,‏ ولم يملك الإبراء من ثمنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يملكه ولنا أن الإبراء ليس من البيع ولا من تتمته‏,‏ فلا يكون التوكيل في البيع توكيلا فيه كالإبراء من غير ثمنه وأما قبض الثمن فقال القاضي وأبو الخطاب‏:‏ لا يمكن وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه قد يوكل في البيع من لا يأمنه على قبض الثمن فعلى هذا إن تعذر قبض الثمن من المشتري‏,‏ لم يلزم الوكيل شيء ويحتمل أن يملك قبض الثمن لأنه من موجب البيع فملكه الوكيل فيه كتسليم المبيع فعلى هذا ليس له تسليم المبيع إلا بقبض الثمن أو حضوره وإن سلمه قبل قبض ثمنه ضمنه والأولى أن ينظر فيه‏,‏ فإن دلت قرينة الحال على قبض الثمن مثل توكيله في بيع ثوب في سوق غائب عن الموكل أو موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل له‏,‏ كان إذنا في قبضه ومتى ترك قبضه كان ضامنا له لأن ظاهر حال الموكل أنه إنما أمره بالبيع لتحصيل ثمنه فلا يرضى بتضييعه ولهذا يعد من فعل ذلك مضيعا مفرطا وإن لم تدل القرينة على ذلك‏,‏ لم يكن له قبضه‏.‏

فصل

وإن وكله في بيع شيء أو طلب الشفعة أو قسم شيء‏,‏ ففيه وجهان أحدهما يملك تثبيته وهو قول أبى حنيفة في القسمة وطلب الشفعة لأنه لا يتوصل إلى ما وكله فيه إلا بالتثبيت والثاني لا يملكه وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه يمكن أحدهما دون الآخر‏,‏ فلم يتضمن الإذن في أحدهما الإذن في الآخر‏.‏

فصل

وإن وكله في شراء شيء ملك تسليم ثمنه لأنه من تتمته وحقوقه فهو كتسليم المبيع في البيع والحكم في قبض المبيع كالحكم في قبض الثمن في المبيع‏,‏ على ما مضى من القول فيه فإن اشترى عبدا ونقد ثمنه فخرج العبد مستحقا فهل يملك أن يخاصم البائع في الثمن‏؟‏ على وجهين فإن اشترى شيئا‏,‏ وقبضه وأخر تسليم الثمن لغير عذر فهلك في يده‏,‏ فهو ضامن له وإن كان له عذر مثل أن ذهب لينقده فهلك أو نحو ذلك‏,‏ فلا ضمان عليه نص عليه أحمد لأنه مفرط في إمساكه كما في الصورة الأولى دون الثانية فلذلك لزمه الضمان بخلاف ما إذا لم يفرط‏.‏

فصل

وإذا وكله في قبض دين من رجل‏,‏ فمات نظرت في لفظه فإن قال‏:‏ اقبض حقى من فلان لم يكن له قبضه من وارثه لأنه لم يؤمر بذلك وإن قال‏:‏ اقبض حقى الذي قبل فلان أو على فلان فله مطالبة وارثه والقبض لأن قبضه من الوارث قبض للحق الذي على موروثه فإن قيل‏:‏ فلو قال‏:‏ اقبض حقى من زيد فوكل زيد إنسانا في الدفع إليه كان له القبض منه والوارث نائب الموروث‏,‏ فهو كوكيله قلنا‏:‏ إن الوكيل إذا دفع عنه بإذنه جرى مجرى تسليمه لأنه أقامه مقام نفسه وليس كذلك ها هنا فإن الحق انتقل إلى الورثة فاستحقت المطالبة عليهم‏,‏ لا بطريق النيابة عن الموروث ولهذا لو حلف لا يفعل شيئا حنث بفعل وكيله له‏,‏ ولا يحنث بفعل وارثه‏.‏

مسألة

قال‏:‏‏[‏وإذا باع الوكيل ثم ادعى تلف الثمن من غير تعد فلا ضمان عليه فإن اتهم حلف‏]‏

إذا اختلف الوكيل والموكل لم يخل من ستة أحوال‏:‏ أحدها أن يختلفا في التلف‏,‏ فيقول الوكيل تلف مالك في يدي أو الثمن الذي قبضته ثمن متاعك تلف في يدي فيكذبه الموكل فالقول قول الوكيل مع يمينه لأنه أمين وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه‏,‏ فلا يكلف ذلك كالمودع وكذلك كل من كان في يده شيء لغيره على سبيل الأمانة كالأب والوصي‏,‏ وأمين الحاكم والمودع والشريك‏,‏ والمضارب والمرتهن والمستأجر‏,‏ والأجير المشترك وإنما كان كذلك لأنه لو كلف ذلك مع تعذره عليه‏,‏ لامتنع الناس من الدخول في الأمانات مع الحاجة إليها فيلحقهم الضرر قال القاضي‏:‏ إلا أن يدعى التلف بأمر ظاهر كالحريق والنهب وشبههما‏,‏ فعليه إقامة البينة على وجود هذا الأمر في تلك الناحية ثم يكون القول قوله في تلفها بذلك وهذا قول الشافعي لأن وجود الأمر الظاهر مما لا يخفى فلا تتعذر إقامة البينة عليه‏.‏ الحالة الثانية‏,‏ أن يختلفا في تعدى الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر موكله مثل أن يدعى عليه أنك حملت على الدابة فوق طاقتها‏,‏ أو حملت عليها شيئا لنفسك أو فرطت في حفظها أو لبست الثوب‏,‏ أو أمرتك برد المال فلم تفعل ونحو ذلك فالقول قول الوكيل أيضا مع يمينه لما ذكرنا في الذي قبله ولأنه منكر لما يدعى عليه‏,‏ والقول قول المنكر ومتى ثبت التلف في يده من غير تعديه إما لقبول قوله وإما بإقرار موكله أو بينة‏,‏ فلا ضمان عليه سواء تلف المتاع الذي أمر ببيعه أو باعه وقبض ثمنه فتلف الثمن‏,‏ وسواء كان بجعل أو بغير جعل لأنه نائب المالك في اليد والتصرف فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك وجرى مجرى المودع والمضارب وشبههما وإن تعدى أو فرط‏,‏ ضمن وكذلك سائر الأمناء ولو باع الوكيل سلعة وقبض ثمنها فتلف من غير تعد واستحق المبيع‏,‏ رجع المشترى بالثمن على الموكل دون الوكيل لأن المبيع له فالرجوع بالعهدة عليه كما لو باع بنفسه‏.‏ الحال الثالثة‏,‏ أن يختلفا في التصرف فيقول الوكيل‏:‏ بعت الثوب وقبضت الثمن فتلف فيقول الموكل‏:‏ لم تبع ولم تقبض أو يقول‏:‏ بعت ولم تقبض شيئا فالقول قول الوكيل ذكره ابن حامد وهو قول أصحاب الرأي لأنه يملك البيع والقبض‏,‏ فيقبل قوله فيهما كما يقبل قول ولى المرأة المجبرة على النكاح في تزويجها ويحتمل أن لا يقبل قوله وهو أحد القولين لأصحاب الشافعي لأنه يقر بحق لغيره على موكله فلم يقبل‏,‏ كما لو أقر بدين عليه وإن وكل في شراء عبد فاشتراه واختلفا في قدر ما اشتراه به‏,‏ فقال‏:‏ اشتريته بألف وقال‏:‏ بل اشتريته بخمسمائة فالقول قول الوكيل لما ذكرناه وقال القاضي‏:‏ القول قول الموكل إلا أن يكون عين له الشراء بما ادعاه فقال‏:‏ اشتر لي عبدا بألف فادعى الوكيل أنه اشتراه بذلك‏,‏ فالقول قول الوكيل إذا وإلا فالقول قول الموكل لأن من كان القول قوله في أصل شيء كان القول قوله في صفته وللشافعي قولان كهذين الوجهين وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان الشراء في الذمة‏,‏ فالقول قول الموكل لأنه غارم مطالب بالثمن وإن اشترى بعين المال فالقول قول الوكيل لكونه الغارم فإنه يطالبه برد ما زاد على خمس المائة ولنا أنهما اختلفا في تصرف الوكيل‏,‏ فكان القول قوله كما لو اختلفا في البيع ولأنه أمين في الشراء‏,‏ فكان القول قوله في قدر ثمن المشترى كالمضارب وكما لو قال له‏:‏ اشتر بألف عند القاضي‏.‏ الحال الرابعة‏,‏ أن يختلفا في الرد فيدعيه الوكيل فينكره الموكل‏,‏ فإن كان بغير جعل فالقول قول الوكيل لأنه قبض المال لنفع مالكه فكان القول قوله‏,‏ كالمودع وإن كان بجعل ففيه وجهان أحدهما‏,‏ أن القول قوله لأنه وكيل فكان القول قوله كالأول والثاني‏,‏ لا يقبل قوله لأنه قبض المال لنفع نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير وسواء اختلفا في رد العين أو رد ثمنها وجملة الأمناء على ضربين أحدهما‏,‏ من قبض المال لنفع مالكه لا غير كالمودع والوكيل بغير جعل فيقبل قولهم في الرد لأنه لو لم يقبل قولهم لامتنع الناس من قبول هذه الأمانات‏,‏ فيلحق الناس الضرر الثاني من ينتفع بقبض الأمانة كالوكيل بجعل‏,‏ والمضارب والأجير المشترك والمستأجر‏,‏ والمرتهن ففيهم وجهان ذكرهما أبو الخطاب وقال القاضي‏:‏ لا يقبل قول المرتهن والمستأجر والمضارب في الرد لأن أحمد نص عليه في المضارب في رواية ابن منصور‏,‏ ولأن من قبض المال لنفع نفسه لا يقبل قوله في الرد ولو أنكر الوكيل قبض المال ثم ثبت ذلك ببينة‏,‏ أو اعتراف فادعى الرد أو التلف لم يقبل قوله لأن خيانته قد ثبتت بجحده فإن أقام بينة بما ادعاه من الرد أو التلف‏,‏ فهل تقبل بينته‏؟‏ على وجهين أحدهما لا تقبل لأنه كذبها بجحده فإن قوله‏:‏ ما قبضت يتضمن أنه لم يرد شيئا والثاني‏:‏ تقبل لأنه يدعى الرد والتلف قبل وجود خيانته وإن كان جحوده أنك لا تستحق على شيئا‏,‏ أو ما لك عندي شيء سمع قوله مع يمينه لأن جوابه لا يكذب ذلك فإنه إذا كان قد تلف أو رد‏,‏ فليس له عنده شيء فلا تنافى بين القولين إلا أن يدعى أنه رده أو تلف بعد قوله‏:‏ ما لك عندي شيء فلا يسمع قوله أيضا لثبوت كذبه وخيانته‏.‏ الحالة الخامسة إذا اختلفا في أصل الوكالة‏,‏ فقال‏:‏ وكلتنى فأنكر الموكل فالقول قول الموكل لأن الأصل عدم الوكالة فلم يثبت أنه أمينه ليقبل قوله عليه ولو قال‏:‏ وكلتك‏,‏ ودفعت إليك مالا فأنكر الوكيل ذلك كله أو اعترف بالتوكيل وأنكر دفع المال إليه‏,‏ فالقول قوله لذلك ولو قال رجل لآخر‏:‏ وكلتنى أن أتزوج لك فلانة بصداق كذا ففعلت وادعت المرأة ذلك‏,‏ فأنكر الموكل فالقول قوله نص عليه أحمد فقال‏:‏ إن أقام البينة‏,‏ وإلا لم يلزم الآخر عقد النكاح قال أحمد‏:‏ ولا يستحلف قال القاضي‏:‏ لأن الوكيل يدعى حقا لغيره فأما إن ادعته المرأة فينبغي أن يستحلف لأنها تدعى الصداق في ذمته فإذا حلف لم يلزمه الصداق‏,‏ ولم يلزم الوكيل منه شيء لأن دعوى المرأة على الموكل وحقوق العقد لا تتعلق بالوكيل ونقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد أن الوكيل يلزمه نصف الصداق لأن الوكيل في الشراء ضامن للثمن‏,‏ وللبائع مطالبته به كذا ها هنا والأول أولى لما ذكرناه ويفارق الشراء لأن الثمن مقصود البائع والعادة تعجيله وأخذه من المتولى للشراء‏,‏ والنكاح يخالفه في هذا كله ولكن إن كان الوكيل ضمن المهر فلها الرجوع عليه بنصفه لأنه ضمنه عن الموكل‏,‏ وهو مقر بأنه في ذمته وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وقال محمد بن الحسن‏:‏ يلزم الوكيل جميع الصداق لأن الفرقة لم تقع بإنكاره‏,‏ فيكون ثابتا في الباطن فيجب جميع الصداق ولنا أنه يملك الطلاق‏,‏ فإذا أنكر فقد أقر بتحريمها عليه فصار بمنزلة إيقاعه لها تحرم به قال أحمد‏:‏ ولا تتزوج المرأة حتى يطلق لعله يكون كاذبا في إنكاره وظاهر هذا تحريم نكاحها قبل طلاقها لأنها معترفة بأنها زوجة له‏,‏ فيؤخذ بإقرارها وإنكاره ليس بطلاق وهل يلزم الموكل طلاقها‏؟‏ يحتمل أن لا يلزمه لأنه لم يثبت في حقه نكاح ولو ثبت لم يكلف الطلاق ويحتمل أن يكلفه‏,‏ لإزالة الاحتمال وإزالة الضرر عنها بما لا ضرر عليه فيه فأشبه النكاح الفاسد ولو ادعى أن فلانا الغائب وكله في تزوج امرأة فتزوجها له‏,‏ ثم مات الغائب لم ترثه المرأة إلا أن يصدقه الورثة‏,‏ أو يثبت ببينة وإن أقر الموكل بالتوكيل في التزويج وأنكر أن يكون الوكيل تزوج له فهاهنا الاختلاف في تصرف الوكيل‏,‏ والقول قول الوكيل فيه فيثبت التزويج ها هنا وقال القاضي‏:‏ لا يثبت وهو قول أبى حنيفة لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه‏,‏ لكونه لا ينعقد إلا بها وذكر أن أحمد نص عليه وأشار إلى نصه فيما إذا أنكر الموكل الوكالة من أصلها ولنا أنهما اختلفا في فعل الوكيل ما أمر به فكان القول قوله‏,‏ كما لو وكله في بيع ثوب فادعى أنه باعه أو في شراء عبد بألف فادعى أنه اشتراه به وما ذكره القاضي من نص أحمد فيما إذا أنكر الموكل الوكالة فليس بنص ها هنا لاختلاف أحكام الصورتين وتباينهما‏,‏ فلا يكون النص في إحداهما نصا في الأخرى وما ذكره من المعنى لا أصل له فلا يعول عليه ولو غاب رجل فجاء رجل آخر إلى امرأته‏,‏ فذكر أن زوجها طلقها وأبانها ووكله في تجديد نكاحها بألف فأذنت له في نكاحها فعقد عليها‏,‏ وضمن الوكيل الألف ثم جاء زوجها فأنكر هذا كله فالقول قوله‏,‏ والنكاح الأول بحاله وقياس ما ذكرناه أن المرأة إن صدقت الوكيل لزمه الألف إلا أن يبينها زوجها قبل دخوله بها وحكى ذلك عن مالك‏,‏ وزفر وحكى عن أبى حنيفة والشافعي أنه لا يلزم الضامن شيء لأنه فرع عن المضمون عنه‏,‏ ولم يلزم المضمون عنه شيء فكذلك فرعه ولنا أن الوكيل مقر بأن الحق في ذمة المضمون عنه‏,‏ وأنه ضامن عنه فلزمه ما أقر به كما لو ادعى على رجل أنه ضمن له ألفا على أجنبي‏,‏ فأقر الضامن بالضمان وصحته وثبوت الحق في ذمة المضمون عنه وكما لو ادعى شفعة على إنسان في شقص اشتراه فأقر البائع بالبيع‏,‏ وأنكره المشترى فإن الشفيع يستحق الشفعة في أصح الوجهين وإن لم تدع المرأة صحة ما ذكره الوكيل فلا شيء عليه ويحتمل أن من أسقط عنه الضمان أسقطه في هذه الصورة‏,‏ ومن أوجبه أوجبه في الصورة الأخرى فلا يكون فيها اختلاف والله أعلم‏.‏ الحال السادسة أن يختلفا في صفة الوكالة‏,‏ فيقول‏:‏ وكلتك في بيع هذا العبد قال‏:‏ بل وكلتنى في بيع هذه الجارية أو قال‏:‏ وكلتك في البيع بألفين قال‏:‏ بل بألف أو قال‏:‏ وكلتك في بيعه نقدا قال بل نسيئة أو قال‏:‏ وكلتك في شراء عبد قال‏:‏ بل في شراء أمة أو قال‏:‏ وكلتك في الشراء بخمسة قال‏:‏ بل بعشرة فقال القاضي‏:‏ القول قول الموكل وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال أبو الخطاب‏:‏ إذا قال‏:‏ أذنت لك في البيع نقدا‏,‏ في الشراء بخمسة قال‏:‏ بل أذنت لي في البيع نسيئة وفي الشراء بعشرة فالقول قول الوكيل نص عليه أحمد في المضاربة لأنه أمين في التصرف فكان القول قوله في صفته‏,‏ كالخياط إذا قال‏:‏ أذنت لي في تفصيله قباء قال‏:‏ بل قميصا وحكى عن مالك إن أدركت السلعة فالقول قول الموكل‏,‏ وإن فاتت فالقول قول الوكيل لأنها إذا فاتت لزم الوكيل الضمان والأصل عدمه‏,‏ بخلاف ما إذا كانت موجودة والقول الأول أصح لوجهين‏:‏ أحدهما أنهما اختلفا في التوكيل الذي يدعيه الوكيل والأصل عدمه‏,‏ فكان القول قول من ينفيه كما لو لم يقر الموكل بتوكيله في غيره والثاني أنهما اختلفا في صفة قول الموكل‏,‏ فكان القول قوله في صفة كلامه كما لو اختلف الزوجان في صفة الطلاق فعلى هذا إذا قال‏:‏ اشتريت لك هذه الجارية بإذنك قال‏:‏ ما أذنت لك إلا في شراء غيرها أو قال‏:‏ اشتريتها لك بألفين فقال‏:‏ ما أذنت لك في شرائها إلا بألف فالقول قول الموكل وعليه اليمين فإذا حلف برئ من الشراء‏,‏ ثم لا يخلو إما أن يكون الشراء بعين المال أو في الذمة فإن كان بعين المال‏,‏ فالبيع باطل وترد الجارية على البائع إن اعترف بذلك وإن كذبه في أن الشراء لغيره أو بمال غيره بغير إذنه‏,‏ فالقول قول البائع لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان له فإن ادعى الوكيل علمه بذلك حلفه إنه لا يعلم أنه اشتراه بمال موكله لأنه يحلف على نفى فعل غيره فكانت يمينه على نفى العلم فإذا حلف‏,‏ أمضى البيع وعلى الوكيل غرامة الثمن لموكله ودفع الثمن إلى البائع‏,‏ وتبقى الجارية في يده ولا تحل له لأنه لا يخلو من أن يكون صادقا فتكون للموكل‏,‏ أو كاذبا فتكون للبائع فإذا أراد استحلالها اشتراها ممن هي له في الباطن‏,‏ فإن امتنع من بيعه إياها رفع الأمر إلى الحاكم ليرفق به ليبيعه إياها‏,‏ ليثبت الملك له ظاهرا وباطنا ويصير ما ثبت له في ذمته ثمنا قصاصا بالذى أخذ منه الآخر ظلما فإن امتنع الآخر من البيع‏,‏ لم يجبر عليه لأنه عقد مراضاة وإن قال‏:‏ إن كانت الجارية لي فقد بعتكها أو قال الموكل‏:‏ إن كنت أذنت لك في شرائها بألفين فقد بعتكها ففيه وجهان أحدهما لا يصح وهو قول القاضي وبعض الشافعية لأنه بيع معلق على شرط والثاني‏,‏ يصح لأن هذا أمر واقع يعلمان وجوده فلا يضر جعله شرطا‏,‏ كما لو قال‏:‏ إن كانت هذه الجارية جاريتى فقد بعتكها وكذلك كل شرط علما وجوده فإنه لا يوجب وقوف البيع ولا شكا فيه فأما إن كان الوكيل اشترى في الذمة ثم نقد الثمن‏,‏ صح الشراء ولزم الوكيل في الظاهر فأما في الباطن‏,‏ فإن كان الوكيل كاذبا في دعواه فالجارية له لأنه اشتراها في ذمته بغير أمر غيره وإن كان صادقا‏,‏ فالجارية لموكله فإذا أراد إحلالها له توصل إلى شرائها منه كما ذكرنا وكل موضع كانت للموكل في الباطن فامتنع من بيعها للوكيل‏,‏ فقد حصلت في يد الوكيل وهي للموكل وفي ذمته للوكيل ثمنها فأقرب الوجوه أن يأذن للحاكم في بيعها‏,‏ وتوفية حقه من ثمنها فإن كانت للوكيل فقد أذن في بيعها‏,‏ وإن كانت للموكل فقد باعها الحاكم في إيفاء دين امتنع المدين من وفائه وقد قيل غير ما ذكرنا وهذا أقرب -إن شاء الله تعالى- وإن اشتراها الوكيل من الحاكم بماله على الموكل‏,‏ جاز لأنه قائم مقام الموكل في هذا فأشبه ما لو اشترى منه‏.‏

فصل

ولو وكله في بيع عبد فباعه نسيئة‏,‏ فقال الموكل‏:‏ ما أذنت في بيعه إلا نقدا وصدقه الوكيل والمشترى فسد البيع وله مطالبة من شاء منهما بالعبد‏,‏ إن كان باقيا أو بقيمته إن كان تالفا فإن أخذ القيمة من الوكيل رجع على المشترى بها لأن التلف في يده‏,‏ فاستقر الضمان عليه وإن أخذها من المشترى لم يرجع على أحد وإن كذباه‏,‏ وادعيا أنه أذن في البيع نسيئة فعلى قول القاضي‏:‏ يحلف الموكل ويرجع في العين إن كانت قائمة‏,‏ وإن كانت تالفة رجع بقيمتها على من شاء منهما فإن رجع على المشتري‏,‏ رجع على الوكيل بالثمن الذي أخذه منه لا غير لأنه لم يسلم له المبيع وإن ضمن الوكيل لم يرجع على المشترى في الحال لأنه يقر بصحة البيع وتأجيل الثمن‏,‏ وإن البائع ظلمه بالرجوع عليه وأنه إنما يستحق المطالبة بالثمن بعد الأجل فإذا حل الأجل‏,‏ رجع الوكيل على المشترى بأقل الأمرين من القيمة أو الثمن المسمى لأن القيمة إن كانت أقل فما غرم أكثر منها فلا يرجع بأكثر مما غرم‏,‏ وإن كان الثمن أقل فالوكيل معترف للمشترى أنه لا يستحق عليه أكثر منه وأن الموكل ظلمه بأخذ الزائد على الثمن‏,‏ فلا يرجع على المشترى بما ظلمه به الموكل وإن كذبه أحدهما دون الآخر فله الرجوع على المصدق بغير يمين ويحلف على المكذب‏,‏ ويرجع على حسب ما ذكرنا هذا إن اعترف المشترى بأن الوكيل وكيل في البيع وإن أنكر ذلك وقال‏:‏ إنما بعتنى ملكك‏,‏ فالقول قوله مع يمينه أنه لا يعلم كونه وكيلا ولا يرجع عليه بشيء‏.‏

فصل

وإذا قبض الوكيل ثمن المبيع فهو أمانة في يده‏,‏ لا يلزمه تسليمه قبل طلبه ولا يضمنه بتأخيره لأنه رضي بكونه في يده ولم يرجع عن ذلك فإن طلبه فأخر رده مع إمكانه فتلف‏,‏ ضمنه وإن وعده برده ثم ادعى أننى كنت رددته قبل طلبه أو أنه كان تلف‏,‏ لم يقبل قوله لأنه مكذب لنفسه بوعده برده فإن صدقه الموكل برئ وإن كذبه‏,‏ فالقول قول الموكل فإن أقام الوكيل بينة بذلك فهل يقبل على وجهين أحدهما‏,‏ يقبل لأنه لو صدقه الموكل برئ فكذلك إذا قامت له بينة ولأن البينة إحدى الحجتين‏,‏ فبرئ بها كالإقرار والثاني‏:‏ لا يقبل لأنه كذبه بوعده بالدفع أما إذا صدقه فقد أقر ببراءته فلم يبق له منازع وإن لم يعده برده‏,‏ لكن منعه أو مطله برده مع إمكانه ثم ادعى التلف أو الرد لم يقبل قوله لأنه ضامن بالمنع‏,‏ خارج عن حال الأمانة وإن أقام بما ادعاه من الرد أو التلف بينة سمعت لأنه لم يكذبها‏.‏

فصل

قال أحمد في رواية أبى الحارث في رجل له على آخر دراهم‏,‏ فبعث إليه رسولا يقبضها فبعث إليه مع الرسول دينارا فضاع مع الرسول‏,‏ فهو من مال الباعث لأنه لم يأمره بمصارفته إنما كان من ضمان الباعث لأنه دفع إلى الرسول غير ما أمره به المرسل فإن المرسل إنما أمره بقبض ما له في ذمته‏,‏ وهي الدراهم ولم يدفعها وإنما دفع دينارا عوضا عن عشرة دراهم‏,‏ وهذا صرف يفتقر إلى رضي صاحب الدين وإذنه ولم يأذن فصار الرسول وكيلا للباعث في تأديته إلى صاحب الدين ومصارفته به‏,‏ فإذا تلف في يد وكيله كان من ضمانه اللهم إلا أن يخبر الرسول الغريم أن رب الدين أذن له في قبض الدينار عن الدراهم فيكون حينئذ من ضمان الرسول لأنه غره وأخذ الدينار على أنه وكيل للمرسل وإن قبض منه الدراهم التي أمر بقبضها فضاعت من الرسول‏,‏ فهي من ضمان صاحب الدين لأنها تلفت من يد وكيله وقال أحمد في رواية مهنا في رجل له عند آخر دنانير وثياب فبعث إليه رسولا‏,‏ وقال‏:‏ خذ دينارا وثوبا فأخذ دينارين وثوبين فضاعت فالضمان على الباعث يعني الذي أعطاه الدينارين والثوبين‏,‏ ويرجع به على الرسول يعني عليه ضمان الدينار والثوب الزائدين إنما جعل عليه الضمان لأنه دفعهما إلى من لم يؤمر بدفعهما إليه ورجع بهما على الرسول لأنه غره وحصل التلف في يده‏,‏ فاستقر عليه الضمان وللموكل تضمين الوكيل لأنه تعدى بقبض ما لم يؤمر بقبضه فإذا ضمنه لم يرجع على أحد لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه وقال أحمد في رجل وكل وكيلا في اقتضاء دينه‏,‏ وغاب فأخذ الوكيل به رهنا فتلف الرهن في يد الوكيل‏,‏ فقال‏:‏ أساء الوكيل في أخذ الرهن ولا ضمان عليه إنما لم يضمنه لأنه رهن فاسد والقبض في العقد الفاسد‏,‏ كالقبض في الصحيح فما كان القبض في صحيحه مضمونا كان مضمونا في فاسده‏,‏ وما كان غير مضمون في صحيحه كان غير مضمون في فاسده ونقل البغوى عن أحمد في رجل أعطى آخر دراهم يشتري له بها شاة‏,‏ فخلطها مع دراهمه فضاعا فلا شيء عليه وإن ضاع أحدهما‏,‏ أيهما ضاع غرمه قال القاضي‏:‏ هذا محمول على أنه خلطها بما تميز منها ويحتمل أنه أذن له في خلطها أما إن خلطها بما لا تتميز منه بغير إذنه ضمنها كالوديعة وإنما لزمه الضمان إذا ضاع أحدهما‏,‏ لأنه لا يعلم أن الضائع دراهم الموكل والأصل بقاؤها ومعنى الضمان ها هنا أنه يحسب الضائع من دراهم نفسه فأما على المحمل الآخر‏,‏ وهو إذا خلطها بما تتميز منه فإذا ضاعت دراهم الموكل وحدها فلا ضمان عليه لأنها ضاعت من غير تعد منه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالا فادعى أنه دفعه إليه‏,‏ لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة‏]‏

وجملته أن الرجل إذا وكل وكيلا في قضاء دينه ودفع إليه مالا ليدفعه إليه فادعى الوكيل قضاء الدين ودفع المال إلى الغريم‏,‏ لم يقبل قوله على الغريم إلا ببينة لأنه ليس بأمينه فلم يقبل قوله عليه في الدفع إليه كما لو ادعى الموكل ذلك فإذا حلف الغريم‏,‏ فله مطالبة الموكل لأن ذمته لا تبرأ بدفع المال إلى وكيله فإذا دفعه فهل للموكل الرجوع على وكيله‏؟‏ ينظر فإن ادعى أنه قضى الدين بغير بينة فللموكل الرجوع عليه إذا قضاه في غيبة الموكل قال القاضي‏:‏ سواء صدقه أنه قضى الحق أو كذبه وهذا قول الشافعي لأنه أذن له في قضاء يبرئه‏,‏ ولم يوجد وعن أحمد رواية أخرى‏:‏ لا يرجع عليه بشيء إلا أن يكون أمره بالإشهاد فلم يفعل فعلى هذه الرواية إن صدقه الموكل في الدفع‏,‏ لم يرجع عليه بشيء وإن كذبه فالقول قول الوكيل مع يمينه وهذا قول أبى حنيفة ووجه لأصحاب الشافعي لأنه ادعى فعل ما أمر به موكله‏,‏ فكان القول قوله كما لو أمره ببيع ثوبه فادعى أنه باعه ووجه الأول أنه مفرط بترك الإشهاد‏,‏ فضمن كما لو فرط في البيع بدون ثمن المثل فإن قيل‏:‏ فلم يأمره بالإشهاد‏؟‏ قلنا إطلاق الأمر بالقضاء يقتضي ذلك لأنه لا يثبت إلا به فيصير كأمره بالبيع والشراء يقتضي ذلك العرف لا العموم كذا ها هنا وقياس القول الآخر يمكن القول بموجبه وأن قوله مقبول في القضاء‏,‏ لكن لزمه الضمان لتفريطه لا لرد قوله وعلى هذا لو كان القضاء بحضرة الموكل‏,‏ لم يضمن الوكيل شيئا لأن تركه الإشهاد والاحتياط رضي منه بما فعل وكيله وكذلك لو أذن له في القضاء بغير إشهاد فلا ضمان على الوكيل لأن صريح قوله يقدم على ما تقتضيه دلالة الحال وكذلك إن أشهد على القضاء عدولا فماتوا أو غابوا فلا ضمان عليه لعدم تفريطه وإن أشهد من يختلف في ثبوت الحق بشهادته‏,‏ كشاهد واحد أو رجل وامرأتين فهل يبرأ من الضمان‏؟‏ يخرج على روايتين وإن اختلف الوكيل والموكل فقال‏:‏ قضيت الدين بحضرتك قال‏:‏ بل في غيبتي‏,‏ أو قال‏:‏ أذنت لي في قضائه بغير بينة فأنكر الإذن أو قال‏:‏ أشهدت على القضاء شهودا فماتوا فأنكره الموكل فالقول قول الموكل لأن الأصل معه‏.‏

فصل

وإن وكله في إيداع ماله فأودعه ولم يشهد‏,‏ فقال أصحابنا‏:‏ لا يضمن إذا أنكر المودع وكلام الخرقي بعمومه يقتضي أن لا يقبل قوله على الأمر وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوديعة لا تثبت إلا بالبينة فهي كالدين وقال أصحابنا‏:‏ لا يصح القياس على الدين لأن قول المودع يقبل في الرد والهلاك فلا فائدة في الاستيثاق‏,‏ بخلاف الدين فإن قال الوكيل‏:‏ دفعت المال إلى المودع فقال‏:‏ لم تدفعه فالقول قول الوكيل لأنهما اختلفا في تصرفه وفيما وكل فيه فكان القول قوله فيه‏.‏

فصل

وإذا كان على رجل دين وعنده وديعة‏,‏ فجاءه إنسان فادعى أنه وكيل صاحب الدين الوديعة في قبضهما وأقام بذلك بينة وجب الدفع إليه وإن لم يقم بينة‏,‏ لم يلزمه دفعها إليه سواء صدقه في أنه وكيله أو كذبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ إن صدقه لزمه وفاء الدين وفي دفع العين إليه روايتان أشهرهما‏,‏ لا يجب تسليمها واحتج بأنه أقر له بحق الاستيفاء فلزمه إيفاؤها‏,‏ كما لو أقر له أنه وارثه ولنا أنه تسليم لا يبرئه فلا يجب‏,‏ كما لو كان الحق عينا وكما لو أقر بأن هذا وصى الصغير وفارق الإقرار بكونه وارثه لأنه يتضمن براءته فإنه أقر بأنه لا حق لسواه فأما إن أنكر وكالته لم يستحلف وقال أبو حنيفة‏:‏ يستحلف ومبنى الخلاف على الخلاف في وجوب الدفع مع التصديق‏,‏ فمن أوجب عليه الدفع مع التصديق ألزمه اليمين عند التكذيب كسائر الحقوق‏,‏ ومن لم يوجب عليه الدفع مع التصديق قال‏:‏ لا يلزمه اليمين عند التكذيب لعدم فائدتها فإن دفع إليه مع التصديق أو مع عدمه فحضر الموكل‏,‏ وصدق الوكيل برئ الدافع وإن كذبه‏,‏ فالقول قوله مع يمينه فإذا حلف وكان الحق عينا قائمة في يد الوكيل‏,‏ فله أخذها وله مطالبة من شاء بردها لأن الدافع دفعها إلى غير مستحقها والوكيل عين ماله في يده فإن طالب الدافع‏,‏ فللدافع مطالبة الوكيل بها وأخذها من يده ليسلمها إلى صاحبها وإن تلفت العين‏,‏ أو تعذر ردها فلصاحبها الرجوع ببدلها على من شاء منهما لأن الدافع ضمنها بالدفع والمدفوع إليه قبض ما لا يستحق قبضه وأيهما ضمن لم يرجع على الآخر لأن كل واحد منهما يدعى أن ما يأخذه المالك ظلم‏,‏ ويقر بأنه لم يوجد من صاحبه تعد فلا يرجع على صاحبه بظلم غيره إلا أن يكون الدافع دفعها إلى الوكيل من غير تصديقه فيما ادعاه من الوكالة فإن ضمن رجع على الوكيل لكونه لم يقر بوكالته ولا ثبتت ببينة وإن ضمن الوكيل‏,‏ لم يرجع عليه وإن صدقه لكن الوكيل تعدى فيها أو فرط استقر الضمان عليه فإن ضمن لم يرجع على أحد‏,‏ وإن ضمن الدافع رجع عليه لأنه وإن كان يقر أنه قبضه قبضا صحيحا لكن لزمه الضمان بتفريطه وتعديه‏,‏ فالدافع يقول‏:‏ ظلمنى المالك بالرجوع على وله على الوكيل حق يعترف به الوكيل فبأخذه يستوفى حقه منه فأما إن كان المدفوع دينا لم يرجع إلا على الدافع وحده لأن حقه في ذمة الدافع لم يبرأ منه بتسليمه إلى غير وكيل صاحب الحق‏,‏ والذي أخذه الوكيل عين مال الدافع في زعم صاحب الحق والوكيل والدافع يزعمان أنه صار ملكا لصاحب الحق وأنه ظالم للدافع بالأخذ منه‏,‏ فيرجع الدافع فيما أخذ منه الوكيل ويكون قصاصا مما أخذ منه صاحب الحق وإن كان قد تلف في يد الوكيل لم يرجع عليه بشيء لأنه مقر بأنه أمين لا ضمان عليه‏,‏ إلا أن يتلف بتعديه وتفريطه فيرجع عليه‏.‏

فصل

فإن جاء رجل فقال: أنا وارث صاحب الحق. فإن أنكره، لزمته اليمين أنه لا يعلم صحة ما قال؛ لأن اليمين هاهنا على نفي فعل الغير، فكانت على نفي العلم؛ لأنه لو صدقه لزمه الدفع إليه، فلما لزمه الدفع مع الإقرار، لزمته اليمين مع الإنكار. وإن صدقه في أنه وارث صاحب الحق، لا وارث له سواه، لزمه الدفع إليه. بغير خلاف نعلمه؛ لأنه مقر له بالحق، وإنه يبرأ بهذا الدفع، فلزمه، كما لو جاء صاحب الحق. فأما إن جاء رجل، فقال: قد أحالني عليك صاحب الحق. فصدقه، ففيه وجهان؛ أحدهما: لا يلزمه الدفع إليه؛ لأن الدفع إليه غير مبرئ، ولاحتمال أن يجيء المحيل فينكر الحوالة أو يضمنه، فأشبه المدعي للوكالة. والثاني، يلزمه الدفع إليه؛ لأنه معترف بأن الحق له لا لغيره، فأشبه الوارث. فإن قلنا: يلزمه الدفع مع الإقرار. لزمته اليمين مع الإنكار. وإن قلنا: لا يلزمه الدفع مع الإقرار. لم تلزمه اليمين مع الإنكار؛ لعدم الفائدة فيها. ومثل هذا مذهب الشافعي .

فصل

ومن طلب منه حق فامتنع من دفعه حتى يشهد القابض على نفسه بالقبض‏,‏ نظرت فإن كان الحق عليه بغير بينة لم يلزمه القاضي بالإشهاد لأنه لا ضرر عليه في ذلك فإنه متى ادعى الحق على الدافع بعد ذلك‏,‏ قال‏:‏ لا يستحق على شيء والقول قوله مع يمينه وإن كان الحق ثبت ببينة وكان من عليه الحق يقبل قوله في الرد كالمودع والوكيل بغير جعل‏,‏ فكذلك لأنه متى ادعى عليه حق أو قامت به بينة فالقول قوله في الرد وإن كان ممن لا يقبل قوله في الرد‏,‏ أو يختلف في قبول قوله كالغاصب والمستعير والمرتهن لم يلزمه تسليم ما قبله إلا بالإشهاد‏,‏ لئلا ينكر القابض القبض ولا يقبل قول الدافع في الرد وإن قال‏:‏ لا يستحق على شيئا قامت عليه البينة أو إذا أشهد على نفسه بالقبض لم يلزمه تسليم الوثيقة بالحق إلى من عليه الحق لأن بينة القبض تسقط البينة الأولى والكتاب ملكه‏,‏ فلا يلزمه تسليمه إلى غيره‏.‏

مسألة

قال: [وشراء الوكيل من نفسه غير جائز وكذلك الوصي] وجملة ذلك أن من وكل في بيع شيء، لم يجز له أن يشتريه من نفسه، في إحدى الروايتين. نقلها. مهنا. وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي. وكذلك الوصي، لا يجوز أن يشتري من مال اليتيم شيئا لنفسه، في إحدى الروايتين. وهو مذهب الشافعي. وحكي عن مالك، والأوزاعي جواز ذلك فيهما. والرواية الثانية عن أحمد: يجوز لهما أن يشتريا بشرطين؛ أحدهما، أن يزيدا على مبلغ ثمنه في النداء. والثاني، أن يتولى النداء غيره. قال القاضي: يحتمل أن يكون اشتراط تولي غيره النداء واجبا، ويحتمل أن يكون مستحبا، والأول أشبه بظاهر كلامه. وقال أبو الخطاب: الشرط الثاني، أن يولي من يبيع، ويكون هو أحد المشترين. فإن قيل: فكيف يجوز له دفعها إلى غيره ليبيعها، وهذا توكيل وليس للوكيل التوكيل ؟ قلنا: يجوز التوكيل فيما لا يتولى مثله بنفسه، والنداء مما لم تجر العادة أن يتولاه أكثر الناس بنفوسهم. وإن وكل إنسانا يشتري له، وباعه هو، جاز على هذه الرواية؛ لأنه امتثل أمر موكله في البيع، وحصل غرضه من الثمن، فجاز، كما لو اشتراها أجنبي. وقال أبو حنيفة: رضي الله عنه يجوز للوصي الشراء دون الوكيل؛ لأن الله تعالى قال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}. وإذا اشترى مال اليتيم بأكثر من ثمن مثله، فقد قربه بالتي هي أحسن. ولأنه نائب عن الأب، وذلك جائز للأب، فكذلك لنائبه. ووجه الرواية الأولى، أن العرف في البيع بيع الرجل من غيره، فحملت الوكالة عليه، كما لو صرح به، فقال: بعه غيرك. ولأنه تلحقه التهمة، ويتنافى الغرضان في بيعه نفسه، فلم يجز، كما لو نهاه. والوصي كالوكيل، لا يلي بيع مال غيره بتوليه، فأشبه الوكيل، بل التهمة في الوصي آكد من الوكيل؛ لأن الوكيل يتهم في ترك الاستقصاء في الثمن لا غير، والوصي يتهم في ذلك، وفي أنه يشتري من مال اليتيم ما لا حظ لليتيم في بيعه، فكان أولى بالمنع، وعند ذلك لا يكون أخذه لماله قربا له بالتي هي أحسن. وقد روي عن ابن مسعود أنه قال في رجل أوصى إلى رجل بتركته، وقد ترك فرسا، فقال الوصي: اشتره ؟ قال: لا.

فصل

والحكم في الحاكم وأمينه، كالحكم في الوكيل، والحكم في بيع أحد هؤلاء لوكيله، أو ولده الصغير، أو الطفل يلي عليه، أو لوكيله، أو عبده المأذون، كالحكم في بيعه لنفسه، كل ذلك يخرج على روايتين، بناء على بيعه لنفسه، أما بيعه لولده الكبير، أو والده، أو مكاتبه، فذكرهم أصحابنا أيضا في جملة ما يخرج على روايتين. ولأصحاب الشافعي فيهم وجهان. وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه لولده الكبير؛ لأنه امتثل أمر موكله، ووافق العرف في بيع غيره، فصح، كما لو باعه لأخيه، وفارق البيع لوكيله؛ لأن الشراء إنما يقع لنفسه، وكذلك بيع عبده المأذون، وبيع طفل يلي عليه، بيع لنفسه؛ لأنه هو المشتري له، ووجه الجمع بينهم، أنه يتهم في حقهم، ويميل إلى ترك الاستقصاء عليهم في الثمن، كتهمته في حق نفسه، وكذلك لا تقبل شهادته. والحكم فيما أراد أن يشتري لموكله، كالحكم في بيعه لماله لأنهما سواء في المعنى .

فصل

وإن وكل رجلا يتزوج له امرأة فهل له أن يزوجه ابنته‏؟‏ ويخرج على ما ذكرنا في الوكيل في البيع هل يبيع لولده‏؟‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ يجوز ووجه القولين ما تقدم في التي قبلها وإن أذنت له وليته في تزويجها‏,‏ خرج في تزويجها لنفسه أو لولده وجهان بناء على ما ذكر في البيع وكذلك إن وكله رجل في تزويج ابنته خرج فيه مثل ذلك‏.‏

فصل

وإن وكله رجل في بيع عبده ووكله آخر في شراء عبد‏,‏ فقياس المذهب أنه يجوز له أن يشتريه له من نفسه لأنه أذن له في طرفي العقد فجاز له أن يليهما إذا كان غير متهم كالأب يشتري من مال ولده لنفسه ولو وكله المتداعيان في الدعوى عنهما‏,‏ فالقياس جوازه لأنه تمكنه الدعوى عن أحدهما والجواب عن الآخر وإقامة حجة كل واحد منهما‏,‏ ولأصحاب الشافعي في المسألة وجهان‏.‏

فصل

وإذا أذن للوكيل أن يشتري من نفسه جاز له ذلك وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين‏:‏ لا يجوز لأنه يجتمع له في عقده غرضان‏,‏ الاسترخاص لنفسه والاستقصاء للموكل وهما متضادان‏,‏ فتمانعا ولنا أنه وكل في التصرف لنفسه فجاز‏,‏ كما لو وكل المرأة في طلاق نفسها ولأن علة المنع هي من المشترى لنفسه في محل لاتفاق التهمة لدلالتها على عدم رضي الموكل بهذا التصرف‏,‏ وإخراج هذا التصرف عن عموم لفظه وإذنه وقد صرح ها هنا بالإذن فيها فلا تبقى دلالة الحال مع نصه بلفظه على خلافه وقولهم‏:‏ إنه يتضاد مقصوده في البيع والشراء قلنا‏:‏ إن عين الموكل له الثمن‏,‏ فاشترى به فقد زال مقصود الاستقصاء فإنه لا يراد أكثر مما قد حصل‏,‏ وإن لم يعين له الثمن تقيد البيع بثمن المثل كما لو باع الأجنبى وقد ذكر أصحابنا فيما إذا وكل عبدا يشتري له نفسه من سيده وجها‏,‏ أنه لا يجوز فيخرج ها هنا مثله والصحيح ما قلنا -إن شاء الله تعالى-‏.‏

فصل

إذا وكل عبدا يشتري نفسه من سيده أو يشتري منه عبدا آخر‏,‏ ففعل صح وبه قال أبو حنيفة وبعض الشافعية وقال بعضهم‏:‏ لا يجوز لأن يد العبد كيد سيده فأشبه ما لو وكله في الشراء من نفسه‏,‏ ولهذا يحكم للإنسان بما في يد عبده وذكر أصحابنا وجها كذلك ولنا أنه يجوز أن يشتري عبدا من غير مولاه فجاز أن يشتريه من مولاه كالأجنبي‏,‏ وإذا جاز أن يشتري غيره جاز أن يشتري نفسه كما أن المرأة لما جاز توكيلها في طلاق غيرها‏,‏ جاز في طلاق نفسها والوجه الذي ذكره أصحابنا لا يصح لأن أكثر ما يقدر ها هنا جعل توكيل العبد كتوكيل سيده وقد ذكرنا صحة توكيل السيد في الشراء والبيع من نفسه فهاهنا أولى فعلى هذا‏,‏ إذا قال العبد‏:‏ اشتريت نفسى لزيد فصدقه سيده وزيد صح ولزم زيدا الثمن وإن قال السيد‏:‏ ما اشتريت نفسك إلا لنفسك عتق العبد بقوله وإقراره على نفسه بما يعتق به‏,‏ ويلزم العبد الثمن في ذمته لسيده لأن زيدا لا يلزمه الثمن لعدم حصول العبد له وكون سيده لا يدعيه عليه فلزم العبد‏,‏ لأن الظاهر ممن باشر العقد أنه له وإن صدقه السيد وكذبه زيد نظرت في تكذيبه فإن كذبه في الوكالة‏,‏ حلف وبرئ وللسيد فسخ البيع واسترجاع عبده لتعذر ثمنه‏,‏ وإن صدقه في الوكالة وكذبه في أنك ما اشتريت نفسك لي فالقول قول العبد لأن الوكيل يقبل قوله في التصرف المأذون فيه‏.‏

فصل

وإن وكل عبده في إعتاق نفسه أو امرأته في طلاق نفسها‏,‏ صح وإن وكل العبد في إعتاق عبيده والمرأة في طلاق نسائه لم يملك العبد إعتاق نفسه‏,‏ ولا المرأة طلاق نفسها لأن ذلك ينصرف بإطلاقه إلى التصرف في غيره ويحتمل أن لهما ذلك أخذا من عموم لفظه كما يجوز للوكيل في البيع‏,‏ البيع من نفسه في إحدى الروايتين وإن وكل غريما له في إبراء نفسه صح لأنه وكله في إسقاط حق عن نفسه‏,‏ فأشبه توكيل العبد في إعتاق نفسه وإن وكله في إبراء غرمائه لم يكن له أن يبرئ نفسه كما لو وكله في حبس غرمائه‏,‏ لم يملك حبس نفسه ولو وكله في خصومتهم لم يكن وكيلا في خصومة نفسه ويحتمل أن يملك إبراء نفسه لما ذكرنا من قبل وإن وكل المضمون عنه في إبراء الضامن فأبرأه‏,‏ صح ولا يبرأ المضمون عنه وإن وكل الضامن في إبراء المضمون عنه أو الكفيل في إبراء المكفول عنه فأبرأه‏,‏ صح وبرئ الوكيل ببراءته لأنه فرع عليه فإذا برئ الأصل برئ الفرع ببراءته‏.‏

فصل

وإن وكله في إخراج صدقة على المساكين وهو مسكين‏,‏ أو أوصى إليه بتفريق ثلثه على قوم وهو منهم أو دفع إليه مالا وأمره بتفريقه على من يريد أو دفعه إلى من شاء‏,‏ فالمنصوص عن أحمد أنه لا يجوز له أن يأخذ منه شيئا فإن أحمد قال‏:‏ إذا كان في يده مال للمساكين وأبواب البر وهو محتاج فلا يأكل منه شيئا‏,‏ إنما أمره بتنفيذه وذلك لأن إطلاق لفظ الموكل ينصرف إلى دفعه إلى غيره ويحتمل أن يجوز له الأخذ إذا تناوله عموم اللفظ كالمسائل التي تقدمت ولأن المعنى الذي حصل به الاستحقاق متحقق فيه‏,‏ واللفظ متناول له فجاز له الأخذ كغيره ويحتمل الرجوع في ذلك إلى قرائن الأحوال فما غلب على الظن فيه أنه أراد العموم فيه وفي غيره‏,‏ فله الأخذ منه وما غلب أنه لم يرده فليس له الأخذ‏,‏ وما تساوى فيه الأمران احتمل وجهين وهل له أن يعطيه لولده أو والده أو امرأته‏؟‏ فيه وجهان أولهما جوازه لدخولهم‏,‏ في عموم لفظه ووجود المعنى المقتضى لجواز الدفع إليهم فأما من تلزمه مؤنته غير هؤلاء فيجوز الدفع إليهم‏,‏ كما يجوز دفع صدقة التطوع إليهم‏.‏